فصل: (سورة النحل: الآيات 43- 44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

.[سورة النحل: الآيات 30- 32]

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْرًا}.
{خَيْرًا} أنزل خيرًا. فإن قلت: لم نصب هذا ورفع الأول؟ قلت: فصلا بين جواب المقرّ وجواب الجاحد، يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفا مفعولا للإنزال، فقالوا خيرًا: أي أنزل خيرًا، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأوّلين، وليس من الإنزال في شيء، وروى أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم، فإذا جاء الواقد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا: إن لم تلقه كان خيرًا لك، فيقول: أنا شرّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه، فيلقى أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيخبرونه بصدقه، وأنه نبىّ مبعوث، فهم الذين قالوا خيرًا، وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} وما بعده بدل من خيرًا، حكاية لقوله الذين اتقوا، أي: قالوا هذا القول، فقدّم عليه تسميته خيرًا ثم حكاه.
ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ عدة للقائلين، ويجعل قولهم من جملة إحسانهم وبحمدوا عليه {حَسَنَةٌ} مكافأة في الدنيا بإحسانهم، ولهم في الآخرة ما هو خير منها، كقوله: {فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ}، {ولَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ} دار الآخرة، فحذف المخصوص بالمدح لتقدّم ذكره، و{جَنَّاتُ عَدْنٍ} خبر مبتدإ محذوف، ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح {طَيِّبِينَ} طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي، لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} قيل: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولىّ اللّه، اللّه يقرأ عليك السلام، وبشره بالجنة.

.[سورة النحل: الآيات 33- 34]

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)}.
{تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} قرئ بالتاء والياء، يعني: أن تأتيهم لقبض الأرواح، و{أمْرُ رَبِّكَ} العذاب المستأصل، أو القيامة ذلِكَ أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب {فعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بتدميرهم {ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لأنهم فعلوا ما استوجبوا به التدمير {سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا} جزاء سيئات أعمالهم. أو هو كقوله: {وَجَزاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها}.

.[سورة النحل: آية 35]

{وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاء اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35)}.
هذا من جملة ما عدّد من أصناف كفرهم وعنادهم، من شركهم باللّه وإنكار وحدانيته بعد قيام الحجج وإنكار البعث واستعجاله، استهزاء منهم به وتكذيبهم الرسول، وشقاقهم، واستكبارهم عن قبول الحق، يعني: أنهم أشركوا باللّه وحرّموا ما أحل اللّه، من البحيرة والسائبة وغيرهما، ثم نسبوا فعلهم إلى اللّه وقالوا: لو شاء لم نفعل، وهذا مذهب المجبرة بعينه {كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي أشركوا وحرموا حلال اللّه، فلما نبهوا على قبح فعلهم ورّكوه على ربهم {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ} إلا أن يبلغوا الحق، وأن اللّه لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان، ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة اللّه تعالى من أفعال العباد، وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، واللّه تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له، وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه.

.[سورة النحل: آية 36]

{وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)}.
ولقد أمدّ إبطال قدر السوء ومشيئة الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولا يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة اللّه، وباجتناب الشر الذي هو طاعة الطاغوت {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} أي لطف به لأنه عرفه من أهل اللطف {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} أي ثبت عليه الخذلان والترك من اللطف، لأنه عرفه مصمما على الكفر لا يأتى منه خير {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أنى لا أقدّر الشر ولا أشاؤه، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار.

.[سورة النحل: آية 37]

{إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)}.
ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على إيمانهم، وعرّفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة، وأنه {لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} أي لا يلطف بمن يخذل، لأنه عبث، واللّه تعالى متعال عن العبث، لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه، وقرئ: {لا يهدى} أي: لا تقدر أنت ولا أحد على هدايته وقد خذله اللّه، وقوله: {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} دليل على أنّ المراد بالإضلال: الخذلان الذي هو نقيض النصرة، ويجوز أن يكون {لا يَهْدِي} بمعنى لا يهتدى. يقال: هداه اللّه فهدى، وفي قراءة أبىّ: فإنّ اللّه لا هادى لمن يضل، ولمن أضلّ، وهي معاضدة لمن قرأ {لا يَهْدِي} على البناء للمفعول، وفي قراءة عبد اللّه: {يهدي} بإدغام تاء يهتدى، وهي معاضدة للأولى، وقرئ {يضل} بالفتح، وقرأ النخعي: {إن تحرص} بفتح الراء، وهي لغية.

.[سورة النحل: الآيات 38- 39]

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39)}.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} معطوف على {وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} إيذانًا بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان، حقيقتان بأن تحكيا وتدوّنا: توريك ذنوبهم على مشيئة اللّه، وإنكارهم البعث مقسمين عليه، وبَلى إثبات لما بعد النفي، أي: بلى يبعثهم، ووعد اللّه: مصدر مؤكد لما دلّ عليه بلى. لأن يبعث موعد من اللّه، وبين أنّ الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه في الحكمة {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أنهم يبعثون أو أنه وعد واجب على اللّه، لأنهم يقولون: لا يجب على اللّه شيء، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} متعلق بما دل عليه {بلى} أي يبعثهم ليبين لهم، والضمير لمن يموت، وهو عام للمؤمنين والكافرين، والذي اختلفوا فيه هو الحق {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ} كذبوا في قولهم: لو شاء اللّه ما عبدنا من دونه من شيء، وفي قولهم: لا يبعث اللّه من يموت، وقيل: يجوز أن يتعلق بقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وأنهم كانوا على الضلالة قبله، مفترين على اللّه الكذب.

.[سورة النحل: آية 40]

{إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)}.
{قَوْلُنا} مبتدأ، و{أَنْ نَقُولَ} خبره. {كُنْ فَيَكُونُ} من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، أي: إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له: أحدث، فهو يحدث عقيب ذلك لا يتوقف، وهذا مثل لأنّ مرادًا لا يمتنع عليه، وأنّ وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل، ولا قول ثم، والمعنى: أنّ إيجاد كل مقدور على اللّه تعالى بهذه السهولة، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من شق المقدورات، وقرئ: {فيكون}، عطفًا على {نَقُولَ}.

.[سورة النحل: الآيات 41- 42]

{وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)}.
{وَالَّذِينَ هاجَرُوا} هم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، ظلمهم أهل مكة ففرّوا بدينهم إلى اللّه، منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فجمع بين الهجرتين، ومنهم من هاجر إلى المدينة، وقيل: هم الذين كانوا محبوسين معذبين بعد هجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكلما خرجوا تبعوهم فردّوهم: منهم بلال، وصهيب، وخباب، وعمار، وعن صهيب أنه قال لهم: أنا رجل كبير، إن كنت معكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضرّكم، فافتدى منهم بماله وهاجر، فلما رآه أبو بكر رضي اللّه عنه قال له: ربح البيع يا صهيب، وقال له عمر: نعم الرجل صهيب، لو لم يخف اللّه لم يعصه، وهو ثناء عظيم: يريد لو لم يخلق اللّه نارًا لأطاعه، فكيف فِي اللَّهِ في حقه ولوجهه {حَسَنَةً} صفة للمصدر، أي لنبو أنهم تبوئة حسنة، وفي قراءة علي رضي اللّه عنه: لنثوّينهم، ومعناه: أثوأة حسنة، وقيل: لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم، وعلى العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب، وعن عمر رضي اللّه عنه أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك اللّه لك فيه، هذا ما وعدك ربك في الدنيا، وما ذخر لك في الآخرة أكثر، وقيل: لنبوّأنهم مباءة حسنة وهي المدينة، حيث آواهم أهلها ونصروهم {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} الضمير للكفار، أي: لو علموا أنّ اللّه يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة، لرغبوا في دينهم، ويجوز أن يرجع الضمير إلى المهاجرين، أي: لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم {الَّذِينَ صَبَرُوا} هم الذين صبروا. أو أعنى الذين صبروا، وكلاهما مدح، أي: صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم اللّه المحبوب في كل قلب، فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤسهم، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل اللّه.

.[سورة النحل: الآيات 43- 44]

{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)}.
قالت قريش: اللّه أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، فقيل: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} على ألسنة الملائكة {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} وهم أهل الكتاب، ليعلموكم أن اللّه لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشرًا. فإن قلت: بم تعلق قوله: {بِالْبَيِّناتِ}؟ قلت: له متعلقات شتى، فاما أن يتعلق مما أرسلنا داخلا تحت حكم الاستثناء مع رجالا أي: وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات، كقولك: ما ضربت إلا زيدًا بالسوط، لأن أصله: ضربت زيدًا بالسوط وإما برجالا، صفة له: أي رجالا ملتسين بالبينات، وإما بأرسلنا مضمرًا، كأنما قيل: بم أرسلوا؟ فقلت بالبينات، فهو على كلامين، والأوّل على كلام واحد، وإما بيوحى، أي: يوحى إليهم بالبينات، وإما بلا تعلمون، على أن الشرط في معنى التبكيت والإلزام، كقول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطنى حقي، وقوله: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} اعتراض على الوجوه المتقدّمة، وأهل الذكر: أهل الكتاب، وقيل للكتاب الذكر، لأنه موعظة وتنبيه للغافلين ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يعني ما نزل اللّه إليهم في الذكر مما أمروا به ونهوا عنه ووعدوا وأوعدوا {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا.

.[سورة النحل: الآيات 45- 47]

{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)}.
{مَكَرُوا السَّيِّئاتِ} أي المكرات السيئات، وهم أهل مكة، وما مكروا به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {فِي تَقَلُّبِهِمْ} متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم وأسباب دنياهم {عَلى تَخَوُّفٍ} متخوفين، وهو أن يهلك قوما قبلهم فيتخوّفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون، وهو خلاف قوله: {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} وقيل: هو من قولك: تخوفنه وتخونته، إذا تنقصته قال زهير:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا ** كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النّبْعة السَّفَنُ

أى يأخذهم على أن يتنقصهم شيئًا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا، وعن عمر رضى اللّه عنه. أنه قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا: التخوّف التنقص. قال: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا، وأنشد البيت.
فقال عمر: أيها الناس، عليكم بديوانكم لا يضل. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} حيث يحلم عنكم، ولا يعاجلكم مع استحقاقكم.

.[سورة النحل: آية 48]

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48)}.
قرئ: {أولم يروا}، و{يتفيؤا}، بالياء والتاء، وما موصولة بخلق اللّه، وهو مبهم بيانه {مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ} واليمين، بمعنى الأيمان، وسُجَّدًا حال من الظلال، {وهُمْ داخِرُونَ} حال من الضمير في ظلاله، لأنه في معنى الجمع وهو ما خلق اللّه من كل شيء له ظل، وجمع بالواو، لأن الدخور من أوصاف العقلاء، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب، والمعنى: أو لم يروا إلى ما خلق اللّه من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها، أي عن جانبي كل واحد منها، وشقيه استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبى الشيء، أي: ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة للّه، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضًا، صاغرة منقادة لأفعال اللّه فيها، لا تمتنع.

.[سورة النحل: الآيات 49- 50]

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)}.
{مِنْ دابَّةٍ} يجوز أن يكون بيانا لما في السموات وما في الأرض جميعا، على أنّ في السموات خلقا للّه يدبون فيها كما يدب الأناسى في الأرض، وأن يكون بيانا لما في الأرض وحده، ويراد بما في السموات: الملائكة، وكرّر ذكرهم على معنى: والملائكة خصوصا من بين الساجدين، لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم، ويجوز أن يراد بما في السموات: ملائكتهنّ.
وبقوله والملائكة: ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم، فإن قلت: سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم، فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد؟ قلت: المراد بسجود المكلفين: طاعتهم وعبادتهم، وبسجود غيرهم: انقياده لإرادة اللّه وأنها غير ممتنعة عليها، وكلا السجودين يجمعها معنى الانقياد فلم يختلفا، فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد. فإن قلت: فهلا جيء بمن دون {ما} تغليبا للعقلاء من الدواب على غيرهم؟ قلت: لأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب، فكان متناولا للعقلاء خاصة، فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم، إرادة العموم {يَخافُونَ} يجوز أن يكون حالا من الضمير في {لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي: لا يستكبرون خائفين، وأن يكون بيانا لنفى الاستكبار وتأكيدًا له، لأنّ من خاف اللّه لم يستكبر عن عبادته {مِنْ فَوْقِهِمْ} إن علقته بيخافون، فمعناه: يخافونه أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم، وإن علقته بربهم حالا منه فمعناه: يخافون ربهم عاليا لهم قاهرا، كقوله: {وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ}، {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ} وفيه دليل على أنّ الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهى والوعد والوعيد كسائر المكلفين، وأنهم بين الخوف والرجاء. اهـ.